آخر الأخبار ارتفاع أسعار النفط مدير صناعة حلب: تشميل الإسمنت الأبيض بإحلال المستوردات خطوة مهمة لمرحلة إعادة الإعمار اعتماداً على وثائق مسربة.. تحقيق جديد يكشف تورط أميركا بمشاريع بيولوجية عسكرية في أوكرانيا صناعة المعلومات الإلكترونية في الصين تحقق نمواً مطرداً الاتحاد الأوروبي يحث “تيك توك” على “تسريع” امتثاله لقواعد جديدة اختتام دورة الإعداد الصحفي الشامل في معهد الإعداد الإعلامي دعوة... لحضور محاضرة محاضرة بعنوان نشوف الزلال وطرق التخفيف من آثاره "السِّر في الغياب" : رحلة بين الحضور وكينونة اللاوجود" السفير عبد الهادي يبحث مع القائم بالأعمال العراقي لدى سوريا مستجدات القضية الفلسطينية دعوة ... لحضور أمسية أدبية فنية بعنوان آيات دمشقية عيون دمشق تحاور الكاتبة الشابة بتول صابرين السفير عبد الهادي يطلع سفير الصين على الجهود المبذولة لوقف الحرب في غزة وآخر مستجدات الأوضاع في فلسطين الصحة العالمية: متحور كورونا الجديد أكثر قابلية للانتقال الصحة تطلق حملة تطعيم وطنية ضد فيروس كورونا بمختلف المحافظات المدير العام ... الدكتور مصطفى زقوت قسم الأخبار ... محمد نذير جبر الجولان بوابة القدس ... بقلم عبدالحميد شمالي شهر نيسان .. فلسطينيا "رابطة أدباء شباب سورية تقيم مهرجاناً بعنوان "حبرُ قلمها يُزهر في قلوبنا استهداف آليات وعربات مصفحة للإرهابيين في ريفي حلب وإدلب وإسقاط مسيرات لهم في ريف اللاذقية عيون دمشق تحاور نائبة رئيس رابطة أدباء شباب سورية منى فليون انطلاق أعمال مؤتمر العمل العربي في بغداد بمشاركة سورية الناقد أحمد علي هلال مُكرَّماً في دمشق الحكومة الأرمينية: أكثر من 100 ألف شخص غادروا إقليم قره باغ منذ عملية أذربيجان العسكرية مؤسس ومدير رابطة أدباء شباب سورية المهندس قصي الطُبل لـ عيون دمشق الصين تدعو المجتمع الدولي إلى لعب دور بنّاء لضمان الاستقرار في الشرق الأوسط منظمة التحرير الفلسطينية.. الواقع الراهن وآفاق المستقبل.. وأية منظمة تحرير نريد معركة كلّ يوم ذهبية وبرونزية لسورية في منافسات كرة الطاولة في دورة الألعاب العربية للأندية للسيدات الرباع السوري معن أسعد يحرز ذهبية بطولة آسيا حوار مع الكاتبة هبة الله دحدوح العضوة في رابطة أدباء شباب سورية رئيس رابطة أدباء شباب سورية لموقع "عيون دمشق" : إن المبدعين الشباب في مرحلة ذهبية من الدعم في ظل إدارة د. محمد الحوراني السفير عبد الهادي وزير خارجية الامارت يلقن نتنياهو درساً في أدب العلاقات الدولية بمناسبة اليوم العالمي للسلامة والصحة المهنية… فعاليات متنوعة في وزارة النفط ومؤسساتها وَكمْ انتَظرتُ قلمٌ بجوفِ الحبرِ أَدخل عنقَه
<

"السِّر في الغياب" : رحلة بين الحضور وكينونة اللاوجود"

مبوب / ثقافة وفن












xx

بقلم:  في 10/16/2024

قراءة فلسفية في قصيدة" السر في الغياب " بقلم الناقد التونسي فيصل السائحي


من المجموعة الشعرية : من زهر وجدي جنتك ؛ الصادرة عن دار العراب في دمشق للشاعرة السورية وليدة عنتابي.

**السّر في الغياب** عن سابق تصورٍ لطيفك الأبيد
ذاك الذي ينهلّ من بعيد ْ
حاملاً في نسغه البروق والرعود ومترعاً كفيه بالوعود.
عن سابق توقّعٍ لقربك المحتوم ..
والذي يؤقّت الضياء للنجوم ....
ويرسم المسار لابتسامةٍ تهيمْ ..
تدور في توجّد تحطّ فوق الشفة الكَلومْ ...
عن سابق الأسرار في ترتيلها أنشودة الحواس ...
عن سابق الإحساس ْ ..
ذاك الذي يربو على القياس .
مجنحاً باللّا , ومسرجاً خيوله بالناروالنحاسْ..
مدجّجاً بالصمتِ يشعل للهوى الشموعْ ..
ومرسلاً في شارةٍ برقيّة للمدى القلوعْ ..
مفرّقاً في زحمة المشاعر اشتباكة الدموعْ ...
ومعلناً في سورة اندفاعه زلزلة الشروعْ...
عن سابق المتاح والمباح والمُنال ...
من أزلٍ ينتابني مزلزلاً سؤالْ .....
ليس له جوابٌ في عالم المُقال ...
ليس له جوابْ
والسّر في الغياب ...
السّر في الغيابْ

وليدة عنتابي

في فضاءات الشعر، حيث تسكن الكلمات بين الحضور والغياب، تتبدل الحدود بين ما نراه وما نشعر به، بين المعنى الذي نلتقطه وتلك الأسرار التي تظل عصية على الفهم. قصيدة "السر في الغياب" للشاعرة وليدة عنتابي تُحيلنا إلى عالم تتحرك فيه الأشياء بين الوجود واللاوجود، حيث يصبح الغياب بذاته حضورًا مخفيًا، كأنه الكيان الذي لا يُدرك إلا في غيابه، أو كما قالت: *"ليس له جوابٌ في عالم المُقال."*

هذه القصيدة تطرح تساؤلات فلسفية عميقة: ما هو الغياب؟ هل هو مجرد فقدان الحضور، أم أنه شكل آخر من أشكال الوجود الذي لا يُرى بالعين المجردة؟ كيف يمكن أن يكون الغياب حاملاً للبروق والرعود، صانعًا للتوتر بين ما نعرفه وما لا يمكننا الوصول إليه؟ ولماذا نجد أنفسنا دائمًا أمام هذا اللغز المحير، السر الذي يظل في الغياب؟
تخلق القصيدة مفارقات شديدة الغموض؛ فهي تلعب على الحواف بين الضوء والظلام، بين الصمت والصراخ، بين الحضور والتلاشي. سنتناول في هذه القراءة منهجًا تفكيكيًا يتتبع هذه المفارقات، لفهم كيف تنجح القصيدة في تحويل الغياب من حالة عدمية إلى قوة فاعلة تشتعل بالصمت، وتحرك الأحاسيس في خضم التوتر الشعري. سنعمل على تحليل اللغة الشعرية وكيف تخلُق فضاءات الصورة، وكيفية تقويضها للقوانين التواصلية التقليدية عبر إظهار الغياب ككينونة واعية تسائل الوجود نفسه.

إن الغياب، كما تصوّره القصيدة، لا يظل فراغًا، بل هو **لاوجود فاعل**، سنبحث كيف تتجلى هذه الفاعلية وكيف ينفتح الغياب على احتمالات لا نهائية، خالقة توترًا دائمًا بين المعرفة والحيرة، بين السؤال والجواب الغائب.

1- اللغة الشعرية بوصفها فضاءً للصورة:

تعتبر الصورة الشعرية مكونًا أساسيًا في بناء القصيدة الحديثة، حيث لا تقوم فقط بنقل المعنى أو الفكرة، بل تنشئ عالماً من الانفعالات والرؤى التي يتخطى فيها الشاعر حدود الواقع اليومي. هذه الصور هي ما يحرك القصيدة نحو عمقها الجمالي والفكري. وفي قصيدة*"السر في الغياب"*، نجد أن اللغة الشعرية هي فضاء غني بالصور المركبة التي تستدعي حالة من التأمل والتفكير متعدد الأبعاد.

*-الصورة كتجسيد للتوتر العاطفي والفكري:

من أبرز ما يميز الصور الشعرية في القصيدة هو قدرتها على خلق توتر عاطفي وفكري بين المتناقضات، فهي تربط بين عناصر متضادة لخلق إحساس متأرجح في عقل القارئ. على سبيل المثال:
"حاملاً في نسغه البروق والرعود
ومترعاً كفيه بالوعود."
هنا نجد صورة مركبة تجمع بين الحسي (النسغ كرمز للعصارة والحياة) والعاصف (البروق والرعود كرموز للقوة والغضب). تُعبرهذه الصورة عن حالة من القوة الكامنة داخل الأمل (الوعود) الذي قد يكون هادئًا ظاهريًا ولكنه مضمر بداخلها طاقة كبيرة على وشك الانفجار.لا تكتفي اللغة هنا بنقل مشاعر الانتظار، بل تبني عالماً من التوتر بين الوعد والتحقق، بين الحياة والعاصفة.

*- الصورة بوصفها وسيلة لتجاوز الواقع
لا تقف الصورة الشعرية في القصيدة عند حدود التجسيد الواقعي، بل تعمل كوسيلة للانتقال إلى مستوى آخر من التعبير. نرى ذلك جلياً في:
"تدور في توجّد تحطّ فوق الشفة الكَلوم."
تأخذنا هذه الصورة بعيدًا عن العالم الواقعي إلى فضاء رمزي يتجاوز الجسد إلى الروح. الشفة الجريحة (الكَلوم) ليست مجرد عضو يتألم، بل هي رمز للتواصل المفقود أو الحلم غير المتحقق. الابتسامة التي "تهيم" وتدور في حالة من الوجود المعذب تُشير إلى التأرجح بين الحضور والغياب، وكأن الشاعر يرسم معاناة الانتظار التي تلامس حدود الخيال.

*- الصورة كأداة للربط بين الحسي والمجرد:

تعمل اللغة الشعرية في القصيدة أيضًا على الربط بين الحسي والمجرد، ما يخلق مزيجاً من المعاني التي تحمل القارئ إلى أبعاد جديدة من التفكير. مثال على ذلك:

"مجنحاً باللّا , ومسرجاً خيوله بالنار والنحاس."

هذه الصورة تعبر عن حالة من التناقض الصارخ بين اللاوجود (اللّا) والتجسد المادي (النار والنحاس). خيول الشعر مسرجة بمواد رمزية تمثل الصراع والعنف، ولكنها في الوقت ذاته مجنحة، تعطي الإحساس بالتحليق والتحرر. تستخدم اللغة هنا الصورة لتوسيع دائرة المعنى من خلال تحويل المشاعر غير المحسوسة إلى تجسيدات حية ومتحركة.

د - الصورة في خدمة المعنى اللامباشر
تعمل الصورة الشعرية على تقويض التواصل المباشر، وتستبدله بفضاء من الغموض الذي يترك للقارئ مجالاً للتأويل. نجد هذا بوضوح في:

"مدجّجاً بالصمتِ يشعل للهوى الشموعْ."
تستدعي الصورة هنا حالة من التناقض البصري بين الصمت والإشعال.عادة ما يرتبط الصمت بالهدوء والسكينة، بينما يعبر الإشعال عن الحركة والانفجار. هذه الصورة تُضفي على الحالة العاطفية عمقًا جديدًا، حيث يُشعل الشاعر، في صمته، شعلة العواطف، وكأنما الصمت ذاته يتحول الى لغة معبرة عن الحب والرغبة.يعمل هذا التضاد على خلق حالة من التوتر الهادئ، يمتزج فيها الثبات بالحركة في صورة متكاملة.

*- الغياب كصورة مركزية: تشكيل فضاء اللاوجود

ليس الغياب في القصيدة مجرد مفهوم مجرّد، بل هو صورة متعددة الأبعاد، تُشكّل محورًا يحرك بقية الصور.يتجلى الغياب في كل عناصر القصيدة، سواء في الحضور الغائب للشخصية أو في الوعود التي لا تتحقق. الغياب هو السر الذي يحرك النص:
"عن سابق المتاح والمباح والمُنال...
من أزلٍ ينتابني مزلزلاً سؤال...
ليس له جوابٌ في عالم المُقال."

لا تجعل هذه الصورة الختامية من الغياب غيابًا شخصيًا أو عاطفيا فقط، بل هو غياب في مستوى المعنى ذاته. السؤال الذي ينتاب الشاعر ليس له جواب في عالم الكلمات، مما يعكس حالة من العجز عن التعبير الكامل. هنا،يتحول الغياب إلى صورة متجددة تلقي بظلالها على كل مكونات القصيدة، وتظل تخلق مسافة بين القارئ والمعنى.

تتحول اللغة الشعرية إذن إلى فضاء لصناعة الصور التي تتجاوز مجرد الوصف لتصبح أدوات فلسفية وتعبيرية تستدعي تأملات عميقة في الوجود والغياب. تبتكر الشاعرة الصور الشعرية لخلق توترات عاطفية وفكرية، عندما تتلاعب بالمعاني الظاهرة والباطنة، ما يجعل النص مفتوحًا على تعددية تأويلية تُثري تجربة القارئ.

2- قانون السلب و استحضاراللامرئي:

تُعد القصيدة الحديثة ساحة تتصارع فيها المفاهيم والأفكار، ومن بين هذه المفاهيم يبرز "قانون السلب" كأداة فلسفية ولغوية تستعملها الشاعرة لإنتاج المعنى من خلال ما لا يُقال أو ما لا يُرى. في قصيدة *"السر في الغياب"*, يظهر هذا القانون بوضوح، حيث يصبح الغياب، بصفته جوهرًا مركزيًا في النص، حاضرًا من خلال نفيه لكل ما هو ملموس ومرئي.تستمد القصيدة قوتها من كتابة اللامرئي ومنح الغياب سلطة على فضاء النص ومعناه.

*السلب كإطار لبناء المعنى :

ليس السلب في القصيدة مجرد غياب فيزيائي أو حسي، بل هو جوهر يشكل بنية النص وعمقه الفلسفي. نجد ذلك في قول الشاعرة:

"والذي يؤقّت الضياء للنجوم ....
ويرسم المسار لابتسامةٍ تهيمْ."

هنا، الغياب لا يُكتب بشكل مباشر، بل من خلال حضوره في المشهد. الابتسامة التي "تهيم" هي صورة مجسدة للسلب، فهي موجودة لكنها غير ملموسة. تسبح في فضاء اللامرئي، وهو ما يجعلنا ندرك أن القصيدة تعتمد على تقديم الغياب كجزء من تجربة الشاعرة مع الوجود. الضياء للنجوم نفسه مؤقت، ما يجعل الحضور نفسه مؤقتًا وظلًا للغياب.

*كتابة اللامرئي كاستراتيجية شعرية:

و في سياق كتابة أو استدعاء اللامرئي، نلمح أن القصيدة تعبر عن مشاعر وأفكار عميقة لا يمكن التعبير عنها بشكل مباشر، بل من خلال ما لم يُقله يظهرهذا بوضوح في الأسطر التالية:

"مجنحاً باللّا , ومسرجاً خيوله بالنار والنحاس."

ليست الـ"لا" هنا مجرد نفي أو غياب، بل هي قوة خفية تمنح النص توترًا وتأرجحًا بين ما هو مرئي وما هو غير مرئي. الخيول المسرجة بالنار والنحاس تجسد فكرة القوة الظاهرة، ولكن الـ"لا" التي تسبقها تعطيها بُعدًا من السلب، وكأن هذا الفعل الحاضر مشروط بغياب جوهري لا يمكن رؤيته.

*الغياب كسؤال فلسفي لا جواب له:
لا يقتصرالغياب في القصيدة على كونه موضوعًا شعريًا بل يتحول إلى سؤال فلسفي وجودي يتحدى القارئ. في قولها:
*من أزلٍ ينتابني مزلزلاً سؤال ...
ليس له جوابٌ في عالم المُقال."
ليس الغياب هنا مجرد حالة شعورية بل معضلة فكرية. فالسؤال الذي يزلزل الشاعرة منذ لحظة الوجود الاولى يعبر عن غياب الإجابة ذاتها، وبالتالي فإن ما لم يُقل هو الأهم في هذا السياق. عالم "المقال" الذي ترفضه القصيدة هو عالم الوجود المرئي والمباشر، في حين تكمن الحقيقة في عالم "اللامقال" أو اللامرئي.

*الصمت كتجسيد للغياب:

إن الصمت، الذي يظهر في القصيدة كعنصر محوري، هو تجسيد واضح للغياب ولما هو غير مرئي:

*مدجّجاً بالصمتِ يشعل للهوى الشموعْ."
ليس الصمت هنا مجرد انقطاع عن الكلام
أو الصوت، بل هو حضور غير مرئي يشعل العواطف والهوى.يشتغل الصمت في إطار قانون السلب، حيث لا يحتاج إلى الصوت ليكون فعالاً، بل تكمن قوّته على العكس، في غيابه. يتحول هذا السلب إلى قوة إيجابية تُشعل العواطف وتمنحها أبعادًا أعمق.

*السلب والغياب كعنصرين تعبيريين لخلق التوتر:

في القصيدة، يعمل السلب والغياب كعنصرين يخلقان التوتر بين الحضور والغياب، بين المرئي والمخفي. و هو التوتر الذي يعبر عن حالة العاطفة المشدودة التي تعيشها الشاعرة:

"مفرّقاً في زحمة المشاعر اشتباكة الدموعْ ...
ومعلناً في سورة اندفاعه زلزلة الشروعْ."

هنا،يشكل اشتباك الدموع صورة عجيبة تعبر عن هذا التوتر العاطفي بين ما هو مرئي (الدموع) وما هو غير مرئي (الألم الداخلي الذي لا يُرى). اندفاع الشروع وزلزلة المشاعر تعكسان الحالة الداخلية للشاعرة التي لا يمكن التعبير عنها بشكل مباشر، بل من خلال هذا التصادم بين الحضور والغياب.

*الغياب كعنصر بنيوي: السر في الغياب:
يشيرالعنوان نفسه *"السر في الغياب"* إلى أن الغياب ليس مجرد عنصر عرضي في القصيدة، بل هو العنصر البنيوي الذي يشكل كل المعاني في القصيدة ، لذلك يُعيدنا السطر الأخير إلى هذا المفهوم:

"ليس له جوابٌ في عالم المُقال ...
والسّر في الغياب ... السّر في الغياب."

فتكرار الجملة الأخيرة يؤكد أن الغياب هو المحور الذي يدور حوله النص. فالسر الذي لا يمكن قوله أو كتابته هو الغياب نفسه.لا تسعى القصيدة هنا إلى معرفة هذا السر، بل تجعله جزءًا من بنية النص، حيث يكون اللاوجود هو الوجود الأساسي، وما يُقال هو مجرد انعكاس لما لا يمكن قوله.

* قانون السلب وكتابة اللا مرئي كأدوات لتجاوز المعنى :

تعمل قصيدة *"السر في الغياب"* على تطبيق قانون السلب وكتابة اللا مرئي بشكل يعمق من التجربة الشعرية. من خلال الغياب وما لا يُرى أو يُقال، تخلق القصيدة فضاءً للتأمل والتوتر العاطفي والفكري، حيث يصبح الغياب ذاته هو الحاضر الأكبر. السلب هنا ليس مجرد غياب للوجود، بل هو القوة التي تشكل النص وتمنحه معناه، مما يجعل القصيدة رحلة في عالم ما وراء المرئي، عالم الغياب الذي يشكل كل شيء.

3-اللغة الشعرية وتفكيك القوانين التواصلية:

في قصيدة "السر في الغياب"، تشكّل اللغة الشعرية محورًا رئيسيًا لتحويل المعنى إلى فضاء مفتوح على احتمالات غير محدودة، حيث تلمح نزوعا إلى تفكيك القوانين التواصلية التقليدية التي تعتمد على المباشرة والوضوح في نقل المعنى.تتحرك اللغة في هذه القصيدة بين التجريد والتصوير، بين الحضور والغياب، ما يجعلها تتجاوز القواعد المعهودة للاتصال اللغوي، فتصبح ذاتية تنفلت من المعايير المعتادة، لتبتكر قوانينها الخاصة التي تفتح المجال أمام اللامرئي والمسكوت عنه ليصبح فاعلًا في بنية النص.

*اللغة الشعرية كفضاء للصورة:
ليست اللغة الشعرية في هذه القصيدة مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار والمشاعر، بل هي فضاء تولد فيه الصور الشعرية وتتفاعل. تعتمد القصيدة على لغة مكثفة، مليئة بالتجسيد والصور المركبة، التي تعمل على بناء عوالم متعددة المعاني. على سبيل المثال:

*ذاك الذي ينهلّ من بعيد ْ
حاملاً في نسغه البروق والرعود
ومترعاً كفيه بالوعود."
تولد الصورة هنا من خلال تركيب لغوي معقد، تتداخل فيه عناصر الطبيعة (البروق، الرعود) مع رمزية الوعود التي تحملها، مما يخلق تأثيرًا شعريًا يتجاوز المباشرتية. ليست اللغة هنا مجرد نقل للحالة النفسية للشاعر، بل تخلق مشهدًا مكثفًا يتجلى فيه الغياب من خلال حضور الطبيعة بتجلياتها العنيفة والغامضة.

*تفكيك القوانين التواصلية: اللغة كتجربة ذاتية:
تعتمد القصيدة على تفكيك القوانين التواصلية التقليدية التي تقوم على الدلالة المباشرة والوضوح. هنا، تتجاوز اللغة وظيفتها الأداتية في إيصال المعنى، لتصبح تجربة ذاتية تعبر عن انفتاح النص على مستويات متعددة من المعنى. في هذا السياق، نرى استخداما لغة غير تقليدية، بعيدة عن الترتيب المنطقي للكلام، ما يسمح للقصيدة بأن تظل مفتوحة على احتمالات متعددة. مثال على ذلك:

*مجنحاً باللّا , ومسرجاً خيوله بالنار والنحاس."

استخدام الـ"لا" هنا هو شكل من أشكال التمرد على القواعد التواصلية. اذ لا تشير الكلمة إلى نفي مباشر، بل إلى مساحة غامضة تتحرك فيها الدلالة. النص هنا يتجاوز القوانين التواصلية العادية ليخلق نوعًا من الغموض الشعري الذي يفسح المجال للتأمل والتفسير الشخصي.

*انفصال الإشارة عن المدلول:
يحدث في اللغة الشعرية، انفصال بين الإشارة والمدلول، ما يفتح الباب لتفسيرات غير محدودة. فالقصيدة لا تقدم معاني محددة أو واضحة، بل تترك المجال للمتلقي لاستكشاف معاني جديدة عبر القراءة والتأويل. على سبيل المثال:

*ومرسلاً في شارةٍ برقيّة للمدى القلوعْ
مفرّقاً في زحمة المشاعر اشتباكة الدموعْ."
لا تقدم العبارات هنا معنى مباشرًا أو تفسيرًا واضحًا لما يحدث، بل تقدم إشارات إلى مشاعر وأحداث غير مرئية، ما يحمل القارئ على خوض حركة تأويل مستمرة. فالإشارات (القلوع، الدموع) لا تلتزم بمدلول واحد، بل تنفتح على معانٍ متعددة تجعل القصيدة أكثر غنى وتعقيدًا.

*اللغة بين المرئي واللامرئي:

من أبرز خصائص اللغة الشعرية في هذه القصيدة أنها تلعب دورًا في كتابة اللامرئي. فالقصيدة تُبنى على ما لا يُقال أو ما لا يُرى، وتُظهر لنا كيف يمكن للغياب أن يتحول إلى حضور شعري من خلال اللغة. على سبيل المثال:

"مدجّجاً بالصمتِ يشعل للهوى الشموعْ
ومرسلاً في شارةٍ برقية للمدى القلوعْ."
ليس الصمت هنا مجرد غياب الصوت، بل هو حضور مكثف لدلالة غير مرئية لكنها محسوسة. فاللغة هنا تحاول أن تجسد ما لا يمكن إدراكه مباشرة، وتفتح مساحة للقارئ لاستشعار اللامرئي من خلال الكلمات.

*التوتر بين الصوت والصمت:
تعتمد اللغة الشعرية في القصيدة أيضًا على خلق توتر بين الصوت والصمت، بين ما يُقال وما لا يُقال.يخلق هذا التوتر فضاءً شعريًا يتم فيه بناء الدلالات عبر غياب الكلمات مثلما يتم عادة عبر حضورها. على سبيل المثال:

"ومعلناً في سورة اندفاعه زلزلة الشروعْ."
تشير الزلزلة هنا إلى صوت، ولكنها تأتي في سياق اندفاع قد يكون صامتًا. فالنص يتأسس على هذا التوتر بين ما هو صوتي وما هو صامت، مما يضيف بعدًا جديدًا للغة الشعرية التي تتجاوز مجرد نقل المعنى إلى خلق تجربة حسية عميقة.

*استراتيجية التغريب اللغوي:

تستخدم القصيدة أيضًا أسلوب "التغريب" اللغوي، حيث تعتمد على خلق فجوات بين المفردات التقليدية والمعاني الجديدة التي تطرحها. المفردات هنا لا تُستخدم كما هي في اللغة اليومية، بل يُعاد صياغتها في سياقات جديدة تُغني النص. على سبيل المثال:

*"ومرسلاً في شارةٍ برقية للمدى القلوعْ
مفرّقاً في زحمة المشاعر اشتباكة الدموعْ."
ليست المفردات هنا (القلوع، الدموع) مجرد أدوات لغوية لوصف المشاعر، بل هي رموز تُفتح على مستويات أخرى من التأويل. هذه الاستراتيجية تجعل اللغة الشعرية فضاءً لإنتاج صور غير مألوفة.تعمل القصيدة على تفكيك البنية التقليدية للغة وإعادة تشكيلها بشكل متجدد يتلاءم مع موضوع الغياب والتجربة الشعورية. فمن خلال تفكيك القواعد التواصلية التقليدية، تفتح اللغة فضاءات جديدة يمكن من خلالها استيعاب المعاني اللامحدودة:

*"ليس له جوابٌ في عالم المُقال ...
والسّر في الغياب ... السّر في الغياب."
هنا، يبرز السؤال الذي لا يمكن الإجابة عنه، اذ يتحول إلى رمز للغياب. فاللغة الشعرية في هذا المقطع تتحدى الحدود التواصلية المعتادة، إذ تجعل الغياب، الذي هو عادةً ما لا يُقال، مركزًا لبنية المعنى.
تعمل القصيدة على استخدام اللغة الشعرية كأداة لتجاوز القوانين التواصلية التقليدية، وفتح فضاءات جديدة للمعنى تتسم بالغموض والتجريد.و من خلال التركيز على السلب واللامرئي، تمكّنت القصيدة من خلق حالة من الانفصال بين الإشارة والمدلول، ما يجعل من اللغة ليس فقط مجرد وسيلة لنقل المعنى، بل أداة لإنتاج معانٍ جديدة ومتعددة.

4 - وظيفة الصورة: خلق التوتر والقلق:
تمثل الصورة الشعرية في قصيدة "السر في الغياب"أداةً مركزيةً ليس فقط للتعبير عن المشاعر والأفكار، بل لخلق حالة من التوتر والقلق التي تتّسق مع الموضوع الأساسي للنص: الغياب. فالصورة الشعرية هنا لا تكتفي بإظهار العوالم المرئية، بل تتسلل إلى عمق التجربة الإنسانية، تفتح المجال للمتلقي كي يستشعر حضورًا مضطربًا ومتأرجحًا بين الواقع والمجاز، وبين الحضور والغياب. هذا التوتر الذي تولّده الصور يأتي نتيجة لخلق تباينات واستحضار تفاصيل متناقضة، تتصارع فيما بينها ضمن الفضاء النصي، مما يعمق شعور القلق والاضطراب.
من أبرز سمات الصور في هذه القصيدة، أنها تقوم على التناقض بين الثابت والمتحول، بين الوعد والخذلان، وبين الحضور والغياب. على سبيل المثال:
*ذاك الذي ينهلّ من بعيد ْ
حاملاً في نسغه البروق والرعود
ومترعاً كفيه بالوعود."
تجمع الصورة هنا بين الحركة والانتظار، بين الطبيعة المتغيرة (البروق والرعود) والوعود المترعة التي تشير إلى حالة من الثبات والاتساق. هذا التوتر بين ما يتحرك (البروق) وما يظل ثابتًا في الزمن (الوعود) يخلق حالة من القلق لدى القارئ، حيث لا يمكن تحديد مسار المشهد بوضوح. الغياب هنا يتحول إلى حضور متقلب، تتصارع فيه العناصر المتناقضة، ما يجعل من الصعب القبض على لحظة المعنى.

من الوسائل التي تعتمد عليها الشاعرة في خلق التوتر هو استخدام ثنائية الضوء والظلمة، التي تظهر في عدة صور مركبة ضمن النص. فالضوء في القصيدة غالبًا ما يكون موحيًا بالأمل والحضور، بينما تشير الظلمة إلى الغياب والخوف. هذا التداخل يظهر بشكل بارز في المقطع:

"والذي يؤقّت الضياء للنجوم ....
ويرسم المسار لابتسامةٍ تهيمْ ..
تدور في توجّد تحطّ فوق الشفة الكَلومْ ..."
تُظهر الصورة هنا الضوء في مقابل "الشفة الكَلوم"، حيث تنكشف الابتسامة التي يفترض أن تحمل إشراقًا وحياةً، ككيان متردد، "تدور في توجّد" وتظل معلقة فوق الشفاه الريحة. ينبع التوتر هنا من التناقض بين الدلالة الإيجابية للابتسامة والوجع الكامن في "الشفة الكلوم". هذا التضاد يخلق توترًا داخليًا في الصورة، يتعانق فيها الأمل مع الألم، ما يعمّق شعور القلق والاضطراب لدى القارئ.
كما نلمح أيضا كيف تُبنى الصورة الشعرية على أساس ديناميكية تصعيد الحضور ثم انهياره المفاجئ، مما يعمّق الشعور بالتوتر والقلق. على سبيل المثال:

*"مجنحاً باللّا , ومسرجاً خيوله بالنار والنحاسْ
مدجّجاً بالصمتِ يشعل للهوى الشموعْ
ومرسلاً في شارةٍ برقية للمدى القلوعْ."
تعتمد الصورة هنا على تراكب عناصر متناقضة: "اللّا" تشير إلى النفي والعدم، في حين أن "مسرجاً خيوله بالنار والنحاس" تخلق صورة للوجود المكثف والمشبّع بالقوة والعنفوان. هذا الجمع بين العدم (اللّا) والوجود القوي (النار والنحاس) يخلق توترًا حادًا بين الثابت والمتحول، بين ما هو ملموس وما هو مجرد. هذا التوتر لا يهدأ، بل يتصاعد مع كل عنصر جديد يضاف إلى الصورة، مما يعمق شعور القلق لدى المتلقي، حيث تبقى الدلالات مفتوحة وغير مستقرة.
من عناصر القلق في هذه القصيدة أيضًا التوتر بين الصمت والصوت. هذا التوتر يظهر بوضوح في المقطع التالي:

"مدجّجاً بالصمتِ يشعل للهوى الشموعْ
ومرسلاً في شارةٍ برقيّة للمدى القلوعْ
مفرّقاً في زحمة المشاعر اشتباكة الدموعْ ..."
ليس الصمت هنا مجرد غياب للصوت، بل هو قوة مكثفة تحمل بداخلها طاقة التوتر والقلق. إشعال الشموع في الصمت، والرسائل المرسلة إلى المدى، كلها إشارات إلى حضور شيء مكبوت، يتفجر في لحظات غير متوقعة. الدموع "المشتبكة" تُظهر التوتر في أقصى حالاته، حيث تصبح الدموع رمزًا للاحتقان العاطفي الذي لا يجد مخرجًا، مما يخلق شعورًا بعدم الاستقرار لدى القارئ.

من سمات الصور الشعرية أيضا في هذه القصيدة أنها تعتمد على فكرة "الفراغ الممتلئ"، حيث يتجسد الغياب كحضور متوتر ومشحون بطاقة كامنة، يتداخل فيها الأمل مع الخيبة. على سبيل المثال:
"عن سابق الأسرار في ترتيلها أنشودة الحواس ...
عن سابق الإحساس ْ ..
ذاك الذي يربو على القياس."
ليس الغياب هنا فراغًا عاديًا، بل هو مساحة مشحونة بالأسرار وبالإحساس الذي "يربو على القياس". هذه الصور تخلق توترًا داخليًا، حيث يصبح الغياب نفسه حاملًا لمعانٍ لا يمكن تحديدها أو القبض عليها، ما يُشعر القارئ بحضور معنى غير مرئي، فيه كثافة تفرض نفسها على الفضاء الشعري.
و من خلال قدرة الشاعرة على التلاعب باللغة، تصبح الصور أدوات لخلق التوتر بين المباح والممنوع، بين المتاح والمستحيل. على سبيل المثال:

"عن سابق المتاح والمباح والمُنال ...
من أزلٍ ينتابني مزلزلاً سؤالْ ....
ليس له جوابٌ في عالم المُقال ...
ليس له جوابْ …"
يتحول السؤال الذي "ليس له جواب" إلى مركز للقلق. إذ تعتمد الصور هنا على توتير المساحة بين ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، بين ما هو مباح وما هو ممنوع. و هو التوتر اللغوي الذي يعزز من شعور القلق والاضطراب لدى القارئ، حيث تصبح اللغة نفسها عاجزة عن احتواء المعنى، وتتحول إلى مساحة للتوتر المستمر.
تتحول الصورة الشعرية في قصيدة "السر في الغياب" إلى أداة لخلق التوتر والقلق من خلال التناقضات الداخلية التي تبنيها بين الحضور والغياب، بين الثابت والمتحول، وبين المباح والممنوع. يشتد هذا التوتر كلما تعقدت الصور و نأت بنفسها عن الوضوح المباشر، مما يجعل القصيدة فضاءً مفتوحًا على احتمالات التأويل والتجربة الشعورية المكثفة. هكذا، تتحول الصورة من وسيلة جمالية إلى أداة لتفجير التوتر الداخلي، و هو ما يجعل القصيدة تجربة وجودية تعبر عن القلق الكامن في جوهر الغياب.

5 - إيجاد اللا وجود وكينونة الغياب :

يمكن اعتبار **كثافة مفهوم الغياب** في قصيدة "السر في الغياب" أساسًا لبنية النص وتأويله، حيث يتحول الغياب من حالة سلبية تشير إلى الافتقار إلى الحضور، إلى كيان بحد ذاته، أو ما يمكن تسميته بـ" تجلي اللاوجود". فالغياب، كما تجسده القصيدة، ليس مجرد غياب فيزيائي ملموس، بل هو شكل من الحضور الخفي، وكينونة تتجاوز المفاهيم المعتادة للوجود.تنسج القصيدة من الغياب حضورًا غير محسوس، يفرض وجوده في صور شعرية تعبر عن غياب محسوس ولكنه فاعل و مؤثر. يتضح ذلك في :

"ذاك الذي ينهلّ من بعيد
حاملاً في نسغه البروق والرعود."

هنا، "الذي ينهلّ من بعيد" يشير إلى كائن غائب، غير مرئي، لكنه حاضر من خلال قدرته على التأثير؛ إنه يحمل البرق والرعود، وهو ما يشير إلى قوة حقيقية غير ملموسة لكنها محسوسة بقدرتها التأثير ية الفاعلة. يصبح الغياب هنا حالة من الوجود غير المرئي، قوة لا يمكن الإمساك بها أو تحديدها، لكنها تترك أثرها عبر الزمن والفضاء.
و السؤال الذي يؤرقنا حقا و يعمق فينا مشاعر التوتر كقراء للقصيدة هو :فيما تتمثل كينونة هذا الغياب؟ نكتشف أن الإجابة هي : التساؤلات واللا إجابة!!!

فالقصيدة تعتمد على بنية تساؤلية تعكس حالة الغياب المتجذرة في النص، حيث تتكرر الأسئلة التي لا تجد إجابة، مما يعزز من حضور الغياب باعتباره كينونة قائمة بذاتها:

"من أزلٍ ينتابني مزلزلاً سؤالْ
ليس له جوابٌ في عالم المُقال."
تخلق هذه الأسئلة التي تظل معلقة، بلا إجابة، فراغًا دلاليًا، يفتح المجال أمام الغياب ليكون كيانًا مهيمنًا على النص. في عالم "المقال"، أي الكلمات والنطق، يظل الغياب حاضرًا عبر الصمت والأسئلة التي تفتقر إلى الحل. هذا الغياب، إذًا، ليس فراغًا عدميًا، بل هو كينونة تتشكل من خلال الأسئلة التي لا تجد أجوبة.

تتجلى كينونة الغياب في القصيدة من خلال خلق توتر دائم بين الوجود واللاوجود، حيث يتم تقويض الفهم التقليدي للحضور والغياب. نلاحظ ذلك في الصورة التالية:

"مجنحًا باللّا، ومسرجًا خيوله بالنار والنحاسْ."

اللاوجود هنا ليس عدمًا محضًا، بل هو كيان فاعل ("مجنحًا باللّا"). الفعل هنا يخرج من العدم ليصبح قوى فاعلة، حيث يرتبط"اللا" بحركة تحليق وتحرير.يشيرهذا التحليق المرتبط بالعدم إلى إمكانية أن يولّد الغياب في ذاته حركة وقوة.
يصبح الغياب في القصيدة مصدرًا للحياة والتحول، بما يجعله ليس فقط مجرد افتقاد لشيء، بل كينونة قادرة على توليد طاقات جديدة. على سبيل المثال:
"مدججًا بالصمتِ يشعل للهوى الشموع."
يتحول الصمت، الذي يمكن اعتباره رمزًا للغياب أو اللا وجود، إلى مصدر للإشعال والإضاءة. فالتناقض بين الصمت (الغياب) وإشعال الشموع (الحضور) يعكس قدرة الغياب على أن يكون منبعًا للوجود والإضاءة، في إشارة إلى أن الغياب ليس سلبًا مطلقًا، بل هو حالة من التحول والانتظار الذي يسبق الحضور.
ان الغياب حالة مستمرة لا تنتهي، حيث يظل هذا الغياب حاضرًا في كل شيء:

"والسّر في الغياب
السّر في الغياب."
يعمق التكرار هنا الإحساس بأن الغياب ليس لحظة عابرة أو حالة مؤقتة، بل هو جوهر التجربة الإنسانية، سرٌّ متجذر في كينونة الأشياء. يتكرر الغياب ليصبح جزءًا من الوجود ذاته، متداخلًا معه بشكل لا ينفصل، مما يعزز من إحساس القارئ بأن الغياب ليس فقط حالة سلبية، بل هو واقع دائم يتغلغل في كل شيء.
تقدم القصيدة الغياب كإمكان دائم يتجاوز حدود الفهم الإنساني للوجود والعدم. هذا الغياب يصبح إمكانًا مفتوحًا للحركة والتغير، مما يجعله مصدرًا للإبداع الشعري:
"ومرسلاً في شارةٍ برقية للمدى القلوعْ."
يحمل الغياب هنا دلالة الحركة والانطلاق، كما لو أن الغياب ذاته قادر على إرسال الإشارات والانطلاق نحو المجهول. المدى والقلوع يعكسان فكرة الرحيل والبحث، حيث يتحول الغياب إلى رحلة دائمة نحو المدى الأبعد، مما يجعل من اللاوجود حالة من البحث الدائم عن المعنى.
بذلك يمكن النظر إلى الغياب في القصيدة كنوع من الخلاص من الحضور المثقل بالتفاصيل والقيود. الغياب هنا يقدم بديلاً للحضور التقليدي:
"ليس له جوابٌ في عالم المُقال."
في هذا المقطع، يظهر الغياب كبديل لعالم "المقال"، أي الكلام والنطق. الغياب يصبح فضاءً للتحرر من قيود اللغة، حيث يمكن للمعاني أن توجد بلا حاجة إلى التعبير المباشر. هذا يحمل الغياب حالة من الصفاء والسكينة، حيث لا تحتاج الكينونة إلى إثبات .
يتضح من كل ما سبق تأثير واضح للفكر الهيدجري نلمح سماته بوضوح :
من منظور الفيلسوف الالماني هيدغر، الحضور والغياب ليسا متناقضين بشكل مطلق، بل هما حالتان متكاملتان في فهم الوجود. يرى هيدغر أن الوجود يتجلّى دائمًا عبر الغياب، فالأشياء لا تظهر لنا بشكل مباشر إلا عندما نفقدها أو نختبر غيابها. هذا يعني أن الغياب ليس غيابًا كاملاً أو مجرد نقص، بل هو شرط أساسي لتحقيق الحضور.

في القصيدة إشارات إلى التناقض بين "الصمت" كرمز للغياب و"إشعال الشموع" كرمز للحضور، يدفعنا إلى استدعاء مفهوم هيدغر عن **"اللَّغْز"** في وجود الأشياء. الصمت، كغياب للكلمات والتعبير، ليس فراغًا بل حالة من التأمل والتحول، يُمكِّن الذات من الانفتاح على الحضور القادم. إنه يشير إلى حالة من الانتظار والترقب التي تسبق الإضاءة، أو بعبارة أخرى، الحضور إلى الوجود.

إشعال الشموع يمكن فهمه هنا كتجلٍّ للحقيقة بعد الغياب. هذا التناقض الظاهري بين الصمت والضوء يتماشى مع رؤية هيدغر بأن *الوجود دائمًا مشروط بالاختفاء أو الانسحاب*، وأن الحضور لا يمكن أن يحدث إلا عبر انكشاف تدريجي يتضمن لحظات من الغياب. في هذه القراءة، الصمت ليس حالة سلبية، بل هو فضاء يهيئ للإضاءة والحضور، إذ يخلق الفراغ الذي يمكن للذات من خلاله أن تعي حضورها وتحقيق وجودها.
باختصار، من منظور هيدغر، الغياب (الصمت) ليس انفصالاً عن الوجود بل هو الأساس الذي يسمح للحضور (إشعال الشموع) بأن يتحقق.

خاتمة: كينونة الغياب في قصيدة "السر في الغياب"

في قصيدة "السر في الغياب"، يتحول الغياب من كونه مجرد حالة عدمية إلى كينونة فعلية تتفاعل مع الواقع وتعيد تشكيله. الشاعرة تولد من الغياب إمكانات جديدة للوجود، حيث يصبح اللاوجود قوة فاعلة تتجاوز حدود الحضور المادي. الغياب يتحول إلى حالة من التوتر الدائم، ويصبح السر الذي يحكم الوجود كله، موجهًا القارئ إلى تجربة شعرية فلسفية عميقة تتجاوز حدود اللغة والمعاني المباشرة. يتجاوز النص الشعري التوقعات الجمالية للقارئ. قصيدة "السر في الغياب" تعتمد على هذا التجاوز من خلال التلاعب بالتوقعات واستخدام الصور المتناقضة. إذ يعمل النص على خلق مسافة جمالية بين ما هو متوقع وما هو موجود ، مما يرسخ لدى القارئ حالة دائمة من التوتر والبحث عن إجابات غير موجودة.

الناقد التونسي فيصل السائحي


..........


أخبار مشابهة