بقلم: في 9/1/2024
أديبة وفنانة تشكيلية ، أدركت العلاقة بين الريشة والقلم وقبل كل هذا خيمائية ذابت بين حروفها وانصهرت ببوتقة اللون ، حلقت بفضاء الإبداع بجناحين من نور ،مستفيدة من دراستها للصيدلة التي علمتها بأن السم دواء ..هي طفلة تغفو طوال سطور حكاياتها وتصحو بالحلم الذي تجسده حقيقة ماتلبث أن تعود لتغفو بحالة من اللاوعي الأكثر بصيرة ...
هنا أتحدث عن الأديبة الدكتورة أسمهان الحلواني ، التي خطت لنفسها طريقاً مختلفاً بالمشهد الثقافي السوري لا تقلد أحدا ولايمكن لأحد تقليدها بما تمتلكه من أدوات متعددة استطاعت أن تتمكن منها وتبدع بالغير مألوف ...
كان لنا معها هذا الحوار الذي لا يخلو من الروحانية والرفيف نحو بوابة السماء ....
*بداية لو تحدثينا عن المنازل الأولى ...البيئة ....و أثرها في تنمية الموهبة لديك ؟
-لقد بدأت حياتي في بلاد اغتراب، لم تكن غربة بمعناها الصعب لأنني ولدت و نشأت حتى فترة الثانوية العامة في بلد عربي شقيق هو الكويت و هذا جعل من ارتباطي الأسري وثيق جداً ...ففي ظل غياب الأقرباء تكون أكثر التصاقاً بأسرتك و اختماراً بلغتهم الخاصة ، كوجودك في امتحان الحنين لبلدك الأصل ( بدون أن تعرفه عن قرب) ينقل إليك تفاصيله الأبوان فتصبح ذا مخيلة واسعة تخفق بجناحيها ،كما تزداد سعة من خلال التعرف بالخليط الثقافي الذي يحيط بك في مكان كالكويت التي كانت موطن جذب للعديد من الجنسيات و الثقافات المختلفة كل هذا يخلق لديك ذاكرة طفولية شبابية مغايرة لهذا أستطيع القول أن الأسرة الواعية التي انتميت إليها بشكل خاص و البيئة العامة كان لهما تأثير كبير في قضية التأثيث لبيت الإبداع منذ الصغر ثم يأتي التنقل بين سوريا و إيطاليا ثم العودة لسوريا في جديد ليرسم مسيرة تتلاقح فيها الذواكر بالروح لتلد نتاجا تتعالق به بصمات المكان و الزمان.
*ما هو القاسم المشترك بين الريشة و القلم و لأي منهما تميلين ؟
-هذا من اصعب الأسئلة التي أتلقاها دوماً ،القاسم المشترك هو التعبير بكل تأكيد فكلاهما ( القلم و الريشة ) وسيلتان للتعبير عما يختلج في الروح و أراهما كجوادين أصيلين يتسابقان في ميدان عطائي و لا أعلم من يسبق أولا ففي كل مرة أراهما يتركان السبق لتعانقا نتاجا و هنا تظهر اللوحة متكاملة ، يقال في البدء كان الكلمة و لكن أيضا وقبل اختراع الكتابة و الحروف كان الإنسان يرسم كلماته و هذه أنا المتأرجحة بين بين و أميل لمن يلتقط شذرتي على نحو أبدع فأمضي معه.
و هكذا كانت أعمالي الأدبية المطبوعة في الشعر و الرواية تحتضنها أغلفة من لوحاتي الزيتية و هنا أتت التوأمة الدائمة بين الريشة و القلم.
*هل من كيمياء بالأدب ، بمعنى إلى أي مدى استفدتي من دراستك للصيدلة في الرسم و الكتابة ؟
-في الحقيقة ...الكيمياء تتغلغل في كل تفاصيل الحياة ...فما بالك بالأدب ؟ ، الأدب تفاعل مع المعطيات التي تستفزك في الوجود ...حالة من الغليان الدائم و الانصهار في الحدث و في الآخر جذب و تنافر تكثيف و غربلة ....لذلك كنت أنا ذلك الخيميائي الذي ذاب بين حروفه و أنصهر في بوتقه اللون و التشكيل ...كثفت التعبير في الأدب الوجيز ...و امتدت لغتي بالسرد و الرؤى في الرواية و استطارت روحي في قطفات الشعر و تمازجت عجينات اللون في لوحاتي ،نعم لقد استفدت من الصيدلة التي علمتني أن السم دواء و أن الكلمة بلسم و أن رشفة من بوتقة الحياة قد تميتك أو ترتقي بك بعد الثمالة ،و هناك من يزعم أنني استخدم هذه الكلمات في الوصف و التعبير .
و من جانب آخر ... فالصيدلة مهنة إنسانية تجعلك على تماس مباشر مع أنماط البشر ...المريض و السليم الغني و الفقير ... الخ
هذا يجعلك قادراً على قراءة أحوالهم ...معاناتهم ...قابلاً للتعبير عن تطلعاتهم و مساهمة في تقديم بعض الحلول
و هذه أيضا مهمة مزدوجة لدى الأديب .
*متى تغفو أسمهان بين سطور الحكاية و متى تصحو؟
-أسمهان تغفو حقيقة طيلة السطور لكن لتصحو في حلمها فيكون هو الحقيقة المنشودة بينما يصبح الصحو حلما مؤقتا لتعاود إغفاءتها من جديد .
هذا ما أسميه حالة وعي اللاوعي الأكثر بصيرة من حالة الأبصار المجردة ،كم تعوزنا حالة الإغفاءة تلك لنتأمل داخليا ما اختزنته الأزمنة في دواخلنا الممتدة إلى الشاسع فينا هذا التماهي هو ما يجعلك تارة ضمن المنظومة المتحركة في سطورك تنتقل فيها بسلاسة و بلا تلكؤ أو حس انكماش و انحسار و تارة تخرجك من الصورة لتصبح المسرحي الذي يداعب الأدوار ،هذا النوع من الولوج و الخروج أشبه بالإيقاع الذي تنتقل به على سلم عملك الإبداعي لتخرج أخيرا بلحن خاص لا ينفصل عنك و يشبهك إلى حد كبير و يكون بصمة صوتك الداخلي و فكرك الاقتباسي ...
هذه السّنة حلوة كلذه الخلس تغفو بها و لكن لتصحو على عملك مكتملا مبللا بما غرقت به ثناياك.
* على رغم اطلاعك الواسع على تجارب من سبقك من شعراء و روائيين و تشكيليين ، إلا أننا نراك تأخذين خطا مختلفا عن الجميع ، هل هو رفض التقولب بقالب معين أم أنك تسعين لتأسيس مذهب إبداعي خاص بك ؟
- عندما أكتب أو أرسم أركب الموجة التي تجملني إلى الالتقاطة التي تداهمني ،و لا أفكر برفض لشي أو تأسيس لآخر لكن الجرأة على تقديم ما ترجوه و تحبه دون قيد أو شرط ( كالمحبة تماما) هي ما يجعل من أعمالك سمة خاصة بك لا تعود لمدرسة معية و لا تناسب قالبا معينا ،فالأدب و الفن ليسا صنعة بل شهقة إبداعية تأخذ بلبك و تصعد بها أنفاسك إلى الشاهق بعمقك ،و هذا ما يجعلني على طريق يخالف السبل السابقة و ينافي القولبة المعهودة و لعليأوفق فعلا كما ذكرت بتأسيس مذهب إبداعي خاص بي .
* نلاحظ اختيارك العناوين التي تزرع الفضول بذهن المتلقي ، إلى أي مدى يشكل لديك العنوان هاجسا ؟
- العنوان جزأ لا يتجزأ عن العمل الأدبي فهو عتبته الأولى و شرفته التي تظهر للعالم ، بل هو بوابة الجذب التي تأخذ بالقارئ إلى محاولة استشراف العمل أو فهم ملخص الفكرة
قد لا يمت لكلمات أو عناوين الفقرات بصلة لكنه موصول بحبل المعنى السري لهذا كان أيضا حالة تتطلب الوقوف عندها و إتقان التعبير عنها.
*وصايا الماء ...مجموعة كتبت بلغة متفردة كانت كل قطعة منها لوحة تنعكس بها روح أسمهان . إلى أي مدى أنت مسونة بنصوصك؟
-أن تتقن لغة الماء فهذا أمر يستحق حمد الله إلى آخر العمر و الدهر فهي اللغة الشفيفة الندية المنهمرة السلسل المتعرجة الدافقة الهائجة المتكسرة المائجة الرائقة الشائبة الدامية و النقية.... دافئة مثلجة غائمة قارسة و هذا يعني أنها الكل ،و من منا لا يسعى إلى الكل؟ وصايا الماء حملت مرايانا في الماء
و همسات الماء فينا كالدم في أوعيتنا و الدمع في مآقينا والعرق في جدنا ....الخ ...من هذا الإنعكاس في الماء كالمرايا و الذي يعرض صور أسمهان يدرك القارئ أنها ساكنة في نصوصها دوما و مسكونة برذاذها حد البلل و الإرتعاش.
*بما أن للأرواح ذاكرة لو تحدثينا عن ذاكرة الروح المبدعة لأسمهان؟
- إن لي روحا تمتد بذاكرتها إلى أول الأزمان في الماضي و تحلق إلى ما يستقبل من الزمان ...و مع أنني من أنصار الآن إلا أن مخيلتي تحلق باتجاهات شتى ..الأمر أشبه بقطرة مطر تقابل شمساً ،ما إن يعبرها الضوء الواحد حتى تصبح قزحاً من ألوان الطيف فلنقل ...أن روحي قطرة المطر و ذاكرتي هي النور العابر لها
أما منثور اللون فلا بد أن يكون النتاج الذي نقدمه بخجل أمام شمس الحق .
*لا يزال هناك صراع قائم بين الرواية و الشعر ، بما أنك تكتبين الجنسين لأي منهما الغلبة برأيك ؟ و هل يمكن للرواية أن تكون ديوان العرب؟
-لكل مقام مقال ...هناك مقامات لا يصلح فيها إلا الشعر
و هناك حالات لا يكفي الشعر للإحاطة بها فكانت الرواية
الصراع لا بد أن يظل قائما فنحن أمة اعتادت الصراعات
و نجاح العمل يفرض ذلك حين كان الشعر ديوان العرب لم تكن الطباعة و الكتابة في المتناول السهل و كان يحفظ عن ظهر قلر و يسمح بهذا بحوره و تفعيلاته أو حتى إيقاعه الداخلي اليوم و مع تطور الحال و اتاحة مختلف الأجناء الأدبية كان لا بد من صراع قائم دائم يمكن القول ( و بما أنني كما تفضلت أكتب الجنسين) أن الشعر حالة مداهمة يحيط بك تقطفها لتتوج اللحظة بتعبيرك عنها قد يكون ذلك بالصورة و المجاز و الإدهاش فتولد القصيدة
أما الرواية فهي نسيج أكثر اتساعا تستطيع نسجه و من خلال سرده تستطيع التعبير على مساحة واسعة عن الحدث و الفكر و التجارب و الاختمار بالمواقف قد تحتمل مساحة زمنية كبيرة و مسافة مكانية هائلة
لتولد الرواية من رحم التجربة
أما عن الجنس الذي يستحق أن نسميه ديوان العرب ...فليكن الأدب.
*الرفيف إلى بوابة السماء بما تحمله من تناقضات و أسئلة قد لا يتمكن القارئ البسيط من الإجابة عليها بهذا العمق هل تستهدفين النخبة من خلال هذه الرواية؟
-حين أبدأ بالكتابة أغفو كما ذكرت بسؤال سابق
و هذا يعني أنني لا أخطط لاستهداف فئة ما ...بل أكتب و أستطرد وحسب .
كانت الرفيف روايتي الأولى ...و في تجربتنا الأولى عادة نميل إلى ضخ كل ما نعتقد و ما نريد إيصاله و كأنه رسالة نود إيصالها للكون ، ربما كان العمق التأملي الذي أصل إليه يجعل القارئ البسيط لا يستطيع فهمي ،لكن رسالتي أيضا أن أعين هذا القار ئ على تحدي العمق لسبر غور المعنى
فلسنا من أجيال الاستسهلال أو قطف السريع من وسائل الالكترون ...بل نحن أمة تقرأ و هذا ما أشجع عليه فلنكن جميعنا النخبة.
* " لورنس" رواية وجدها البعض أنها تشكل جزء ثان للرفيف ...هل نستطيع القول أن الكاتب امتداداً لنفسه ؟
-الأدب صورة الكاتب و فكره الذي يحمل ...تساؤلاته التي يطرحها بينه و بين نفسه ..خلوته المترجمة على الورق
إحساسه المصقول على هيئة حروف وقصائد .. لذا كلما امتد الكاتب بكل ما ذكرته سيمتد معه أدبه و نتاجه
حين كتبت روايتي الأولى ظننتها الأخيرة و الوحيدة ...حملتها اختماراتي و معرفتي و مشاعري و ما أن خرجت للعلن ...حتى وجدتني أختمر بعم آخر و مد جديد و كان هذا سببا بظهور رواية لورانس ...الأدب امتداد وعي كاتبه و تفرع شجرة معرفته.
* هناك من يقول أن أسمهان الحلواني تتلاعب بالحروف و الألوان كلعبة الشطرنج ما رأيك؟
-الشطرنج لعبة ذكية تظهر القدرة على المجازفة و المخاتلة و الإقدام و التخطيط ...تترافق فيها المربعات بلونين متناوبين ( أبيض و أسود) ،لكن لو كان هناك لعبة تتداخل و تتمازج فيها المربعات البيضاء و السوداء لفضلت تشبيهها بحروفي و ألواني .
*هل تسعين لـ ( لورنس ) الإبداع على رأسك ؟
-الإبداع كلمة كبيرة جدا ...ربما استخدمت كثيرا في الآونة الأخيرة ،و إن كانت بمثابة النبل الذي لا تجده دائماً عند الجميع ، ربما لم أسع يوما أن أكون كاتبة أديبة أو فنانة تشكيلية ...لكنني سعيت كثيرا باتجاه معرفة ذاتي ...و كنت كلما عرفت نفسي أكثر تنفست على رأسي بتلات اللوتس...لعل تاج المعرفة و الوعي هو أنبل ما أتوق للتوصل إليه هناك حيث تتفتح بتلات زهرتك و تطفح بسلام الله
أليس هذا لورنس إبداع أيضاً؟
* لو تركنا لك فسحة بيضاء ماذا تكتبين بها؟
-ربما أتركها بيضاء فكم نحن بحاجة إلى فسحات النقاء ...لكنني سأهمس إليها بأنني ما زلت بأول درجات السلم اللانهايات الغائبة في السموات توق و لن أفلح بدرب الوصول إلا بإيماني الكبير ووجود أسرتي الرائعة.
إن إدارة الموقع ترحب بجميع اقتراحاتكم وآرائكم وهي على تواصل دائم مع قراء وداعمين الموقع