بقلم: في 6/3/2024
يكاد يجزم كلُّنا على أنّ قضية فنُّ الشعر تُعدُّ الفرادةُ سمة ً من أبرز سماتها،تلك الفرادةُ التي تعدّ ُ قديمة ً قِدَم َ ظهور الشعر،فالشعرُ على جهة العموم يعدّ ُ كثيرآ إذا ما نظرنا إليه من جانب الكمِّ، بيدَ أنّ الشعرية الفريدة لا شكّ َ في محدوديتها وكذلك الحال مع القصائد حيث كثرتها منذُ زمن المهلهلِ وحتى زماننا هذا، إلا أنّ القصيدةَ ذات اللفظ والمعنى والصورة والخيال والإيقاعَ الحقيقي تُعَدُّ شبيهةً بتلك العملة النادرة التي يجاهد الأغلب على حيازتها،فلو تمثلنا على سبيل الإيضاح قول جَدِّنا المتنبي : وما الخيلُ إلا كالصديق قليلةٌ وإنْ كثرت في عين من لا يجربُ إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيبُ . لوجدنا المعنى القابع في أعماق أذهاننا مطبقآ تمامآ على فكرة الفرادة الشعرية المشار غاليها آنفآ ، فالشعر كثير بكمِّهِ لكنه قليل في فرادته وجودته، وكذلك الحال مع القصائد والقصيدة،فالمتنبي يحيلنا إلى أنّ الخيل بمفهومها الكمي كثيرة كثر القصائد المتحدث عنها، لكنها في جودتها وفرادتها وحسنها قليلة حقآ والفرادة هنا عناها المتنبي متعلقة بجوهر تلك الخيول لا بظاهرها لأنه عاد وأردف موضحآ أن الناظر إليها من حيث المظهر الخارجي سيفوته شرف محاولة الكشف عن ذلك الجوهر المكنون فهو عن الناظر مغيبٌ كونه اكتفى بالقشور دون اللب،فالذي لم يجرب معرفة جودة الخيول لا شك ستكون الخيول كثيرة وكثيرة في ناظره، لكنه سيُحرمُ فضل العثور على تلك الفرادة المعنية في قلب المتنبي حيث وجهها نحو هو نحو الصديق ووجهناها نحن نحو القصيدة،كل ما لمسناه عند المتنبي يأخذنا تمام الأخذ إلى جهة الشعر والشعرية والقصائد والقصيدة من جهة أحقية التسمية والجودة والفرادة،قبالة ذلك فإننا إذا ما أخذنا مثالآ على( القصيدة المعاصرة) التي يحلو للبعض تسميتها ب(قصيدة الهايكو ) التي هي دونما شك من مستوردات الأدب الغربي الذي يتكئ عليه بعض المحسوبين على الأدب العربي عمومآ والعراقي على وجه الخصوص، وهي خليط من الترجمة والمهاترات الكلامية كما يبدو لنا حيث نموذجها الآتي: بين سرب دجاجاتي أرفع صوت الفلوت لقدومهن صغار السناجب يتنطط الخس منغلق على نفسه أوراقه الصفراء الملساء تقرمش .. فإننا سنكون ولا شك أمام ضياع وتضييع حقيقيين لمفهوم الشعر من حيث جوانبه المعنية في أول الحديث، ستكون المسميات هنا آخذة لنا نحو شاعر بلا قصيدة مع التحفظ على مسمى ( شاعر ) وكذلك نحو فارس بلا جواد حيث المعنى ذاته من جهة ضياع الفروسية ورداءة الجواد إنّ الشعر العربي اليوم يعاني النزع الذي بوسعنا تسميته بالنزع الأخير إذا ما أسلمنا قياده إلى ما يطلق عليها بقصيدة الهايكو العربية، ذلك النزع الذي لا شك في قتله الجزء الأكثر أهمية لقياس الشعرية والذي أشار إليه سابقآ ابن سلاّم الجمحي فضلآ عن ذبحه الفرادة التي أسميناها بتصرفنا إنّ الشاعر المعاصر اليوم تمكن من حيازة التسمية لأسباب هي كثيرة عندنا، لكنه دونما شك لا يمتلك ناصية القصيدة فهو كذاك الفارس الذي ليس يفتقد صهيل حصانه فحسب، بل ضيع الحصان والصهيل معاً إن الإشكالية المطروحة عندنا تأتي كامنة في قضية القيمة، لا نعني القيمة الظاهرية للشعر عمومآ، وإنما القيمة الجوهرية العميقة التي تقوم بمهمة التفريق ما بين الأدعياء على الشعر والشعراء الحقيقيين وهذا بدوره ينسحب على متلقي ذلك الشعر وتلك القصيدة إن أولئك المحسوبين على فن الشعر ولا سيما الحديث والمعاصر اتخذوا مسوغآ مضحكآ سوغ لهم إظهار تلك البدعة السيئة التي أسموها بقصيدة الهايكو وذلك بدوره أعطاهم مسوغ إقناع المتلقي بسهولة تقبل فكرة الفارس دون جواده ومن ثم الشاعر دون قصيدته ، ذلك المسوغ يكمن في قضية صعوبة فهم النص الشعري الكلاسيكي بكل جوانبه ومن ثم صعوبة تقبله، بيد أن أولئك الفرسان الجدد تجاهلوا قضية غاية في الأهمية يكمن جوهرها في مسألة كيفية مرانهم على أسلوب التعامل الصحيح مع صهوات تلك الجياد الأمر الذي يفضي إلى تحقيق عملية احتواء تلك الأماكن ومن ثم ينتهي بهم الأمر الى استحقاقهم امتطاء تلك الجياد ، هذا الحكم الذي يبدو غامضآ بعض الشيء بإمكاننا إسقاطه تمامآ على قضية الغياب الحقيقي لمسألة المران العقلي الحقيقي لأولئك الشعراء الجدد على فهم جوهر النص الشعري الكلاسيكي الأمر الذي أفضى بهم الى هذه القطيعة التامة مع الموروث الذي يعد تلك القلعة المحصنة، وهو أمر زيَّف لهم صورة اختراع تلك المهاترات الكلامية الجديدة التي أضحت عبئآ ثقيلآ على الأدب العربي إننا دونما شك لسنا ضد عملية تحقيق الحداثة الشعرية إذا ما كانت خاضعة لمعايير الإبداع والابتكار، لكن ليس على حساب محاولة وأد الموروث العربي القديم تحت مظلة التجديد والتحديث والتوليد، ولكي تكون تلك الخيمة ململمة لكل ما يحسبه هذا وذاك شعرآ دون وجود مقاومة تصده عن فعله هذا إن في النص القرآني المعروف(( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .. )) سورة الرعد / الآية (17) . ثمة تفريعات حياتية واجتماعية عديدة نستطيع تطبيق جزء منها على ما نروم إيصاله هنا الى المتلقي، ذلك أن ما ينفع المجتمع من القصائد والشعر الحقيقي بوصفه فنآ هو ما يمكنه المكث في الروح والقلب والنفس حيث الأرض الطيبة الخصبة التي تتلقى بطيب نفس تلك القصيدة، أما هذا المسخ المسمى بالهايكو فإنه دون شك ذلك الزبد الذي سيذهب جفاءً لا قرار له ولا وطن إن ذلك الحكم المستنتج من الآية الكريمة المقروءة آنفاً لا لبس فيه من حيث تطبيقه على الجانب الحياتي الفني الذي يمثله النص الشعري العربي قديمه وحديثه، فالمعنى مفهوم تمامآ لا غموض فيه ولا يحتاج الى كد ذهني كبير لأجل فهم مغزاه، إذ ستبقى القصيدة العربية الأم ذلك النفع المتحدث عنه هنا في هذا المقام على الأقل في غالب جوانبها، على أن ذلك الزبد الذاهب جفاءً لا محالة يمكن إسقاطه على تلك النصوص الفاقدة للشعرية بل لأهلية الشعرية الحقيقية ( الهايكو ) إن المطلع على الموروث العربي القديم بإمكانه صنع تقارب تمازجي بين مقولة ابن رشيق القيرواني((.. الشاعر مطالب بكل علم مؤاخذ بكل مكرمة.. )) وبين ما يحدث على الساحة الشعرية العربية عمومآ والعراقية خصوصآ، ذلك التقارب يمكن إطلاقه على على ذلك الكم الهائل من المدعين للشعرية ممن لا يصلحون للانتماء الى خيمة العلم الواحد فضلآ عن بقية العلوم فضلآ عن فقدان مكرمة الشعرية ، فالشعر الحقيقي لا شك في كونه مصاص دماء . إن الشاعر المبدع لا بد له من أن يحاول خلق مسافة أو مساحة التباس بينه وبين المتلقي لكي يبقى النص الشعري محافظاً على هيبته ومكانته ، وذلك ما كان يفعله الشاعر القديم ، أما اليوم فذلك يبدو معدومآ تمامآ ولا سيما عند أصحاب القصيدة الجديدة، ذلك الأمر يأخذنا بدوره إلى أن من أبرز مميزات الشاعر المبدع أن يكون حاذقآ في توظيف مسألة مراوغة المعنى الشعري وأن يكون ابتلاؤه به أن يكون هو المطارَد لا المطارِد من قبل ذلك المعنى وليس عندهم بالقصائد، لذا خرجت تلك الأشكال في أعرافهم ما يشبه أقاصيص الأطفال المضحكة .
إن إدارة الموقع ترحب بجميع اقتراحاتكم وآرائكم وهي على تواصل دائم مع قراء وداعمين الموقع